(1)
مات حميد...
هكذا يجيئني الخبر ببغداد، أُدير المذياع وانا حبيسُ زحامٌ شرسٌ في قلب العاصمة، لا اثير ينقلُ خبرَ مَوتِكَ، لا صَوتٌ تَخنِقهُ الغصّةُ ينعى السكتةُ الخائنة. أَنشغلُ عن الزحام وانقطع عن العالم، أرى الحشودُ التي تتراكض في الاسواق والممرات الضيقة تلهث من تعبِ البلادِ وهي تَعصرُ نفسها كماكنةٍ عملاقةٍ لطحن الاحلام. تنشب في مقاعد السيارة الصغيرة المحشورة بغضب المتزاحمين، الاسئلة التي ستظل ابداً بلا اجابات. الاسئلة ذاتها التي كانت تحوم برأس حميد حين صارعها بنيّة الموت في منفى الثلج الايراني: "أي وطن هذا؟ الخروج منه مجازفة، الدخول اليه مجازفة، العيش فيه مجازفة، البعد عنه مجازفة ...؟" (اقتفي رمادي، رواية، دار طوى، 2008).
لا أحد في عاصمة البلاد يلوّح له بالسلامة الدائمة في المنطقة الغريبة التي مشى اليها على المقسم الآخر من العالم.
يسكت المذياع، تختنق الاسئلة من الدخان المتصاعد من سيجارة الالم، وتهرب مع الهواء الساخن المتصاعد من رؤوس الناس في الشوارع المغلقة؛ يسكت... فينداح من الاخاديد المسننة صوت الناعي الوحيد الذي يرقبك كالنورس الذي كان يذرق على النافذة وهو ينطر الحياة بكامل زخمها ان تندلق عليه في الغرفة الباردة في (ڨايله). صوت قحطان كان الذي اندفع فيّ كحسرة دفينة عرفت كيف تشق طريقها وسط زحام قلب العاصمة الى رأسي: "متى الجية؟ عكب ما طالت الغيبة متى الجية؟ ما عنت عليك العشرة والطيبة.. ولا مرة كتب شوكك مكاتيبه، متى الجية؟". يتداخل الزمن. حميد في العام 1982 يركب دبابة روسية بشعة بفولاذ وحشي يقودها وسط حقول الاعين النافقة، فيما انا اطلق صرختي ببيت للنازحين بناه الجيش الشعبي بالبصرة. حميد يرقد شاحباً بوجه ابيض بغرفة انعاش باردة في الدنمارك. انا وسط العاصمة التي بلا قلب، شرايينها مفتوحة ومشرط اللؤم يغذيها بالتوحش، محشور في سيارة صغيرة اصارع المرارة. فيجيئ خبر الموت. يطفر الى رأسي المشحون بسموم التغريبة العراقية، كيف سأموت يا تُرى؟ هل سأموت بسكتة كحميد؟ ام سأصرخ كأي مفجوعٍ؟ من سيخبر البعيدين من الاصدقاء عني؟ حميد: "دقائقُ... لاختبار الذاكرة. يُخرجُ الأعزلُ كائناتهِ وينهال عليها بالجَلْدِ، لا ترويضاً بل تطهير للنفسِ من أدران الماضي العالقة كالجَربِ، كمن يقضم أظافره ساهياً، متلذذاً بمشهد الدم وهو يسيل على أصابعه بسلاّمياتها المتحفزة لخنق الفراغ". (نص غير منشورة لحميد العقابي، تنفرد بنشره "جدلية" في الملف التأبيني عنه، معنّون بـ"دقائق").
(2)
أثث حميد العقابي، صورته الادبية في الشرق كراوٍ حاذقٍ، لديه القدرة العجيبة على الروي والتماهي النفسي والاستنطاق الحسي للمفردة او تمثلاتها في التركيبة السردية، والانشغال الذكي بالتقنيات التي تتحول الى رافعة لتوصيل الحدث ومبانيه النفسية والحسية في آن واحد. برع العقابي في الرواية، وكأنه يختزن كماً عظيماً من الحكايات التي علقت في منطقة الحضور، وباتت الذاكرة تشتغل بحرفية ماهرة على صيانة الاحداث بتقنية استعادة اللحظة بكامل جهوزيتها، وان كانت ثمة مشاهد مقتطعة، فهي تمثل الانزياحات الحادة للذاكرة، وكأنها عملية تنشيط مباغتة، او عصف ذهني للامساك بالمتن الحكائي.
وثمة اشتغال مكثف للعقابي على الاستعادات الشخصية كحدث مركزي للسيرة التي رصدت التحولات السياسية والاجتماعية عبر اقتناص السلوكيات التي اسست للطبيعة النفسية المرافقة لها، كانت تلك التجليات في رواياته، التي يمكن اعتبارها خماسية غير متسلسلة لحدث مستمر من زوايا اتسمت بالتنوع، فمرة تظهر على انها سيرة خالصة كرواية (اصغي الى رمادي/ دار الجمل 2002)، او رواية اللحظة الخاطفة التي تستكمل السيرة المؤذية التي تشكلت عبر التجربة والاختبار المريع في حقبة الرفض السياسي للنظام الشمولي، والذهول المصاحب للحظة الانتصار المؤجلة والمتحولة الى رفض مضاف استولى على لهفة "التحرر" التي باتت خاملة وكامنة بسقوط "صنم الفردوس" في روايته السيّرية (أقتفي أثري/ دار طوى 2008)، وكأن العقابي في السيرتين، يفتح الاضواء الكاشفة على الخرابات النفسية للمنفيين وسقوط الايديولوجيات وتفتتها وانهزامها قبالة انفلاش كائنات الداخل، فكانتا – أي الروايتين – بمثابة صندوقين اسودين لما اختزنه العقابي في رائعته (الضلع/ دار الجمل 2008)، التي فجّر فيها لعبته التقنية سرداً، وكشف عن لغة فخمة، وصياغات بالغة الدقة في التوصيف النفسي، والاستيعاب العظيم للدرس الديني ومجاوراته القرائية التي انتجت نصاً مهولاً يخرج من حرارة التجربة الانسانية في الحرمان والرعب المقيم في النفس، نحو الافاق التي ظلت مداساً حُراً للحقيقة المطلقة بنفي الروح وقطع الصلة بالجسد الذي يعاني الفقر الحسي، فكان اختلاقه لتلك الرسالة العجائبية، مدخلاً هاماً للمسكوت عنه، الذي تضخم مع انتفاخ حوصلة الحاجة الغريزية وانسحاق الروح باليوميات الجافة المربكة، والتي عنّونها بـ(رسالة بالجلق والجلّاقة – لشيخ الطريقة الجاهرية الحر الفقير)، ولعل حميد بتلك الرسالة التي أرّخها على الطريقة الطقوسية: (انتهى بعون الله في فجر الثامن من جمادى الاولى عام 1403 هـ بمعسكر اللاجئين العراقيين في خرم آباد غربي ايران)، انما اراد ان يستدرك صورة المقدس الذي يتم استنطاقه عبر نفق الحرمان اياً كانت صورته وتوظيفه كنصٍ مُلزمٍ يفرض رؤيته وفتاواه.
تبرز عبقرية العقابي في السرد، كما في الشعر، لكن حظوته السردية غلبت حظوته الشعرية، فيما تظل السيرة هي منطقة الشغل الخالصة والخاصة، فتلك السيرة التي اخرجت العقابي من فسحة الشعر الى فساحة السرد، شكلت المتن الاساس لكل اعماله، لذا يمكن ان القول ان السيرة واصلت توهجها حتى باتت خماسية غير منتظمة لجهة زمن الاصدار، لكنها تظل سلسلة تظهر وتختفي وكأنها لعبة "غُميضة" حكائية برع بها وطورها باتجاه تقصي الزوايا التي تسقط في النص الواحد الذي يُكتب ويُهجر فيظل تائهاً في مدار السيرة، وغامضاً في استقصاء التجربة ورحلتها.
كانت الثلاثية الحكائية السيّرية (اصغي الى رمادي/ أقتفي أثري/ الضلع) مثلث الحدث ومشغولاته المجاورة، فيما الثنائية (الفئران/ دار الجمل 2013) و (المرآة/ دار ميزوبوتاميا 2015) كانت التنويع او الحواشي الموسعة للثلاثية، رصدت ما كان لا يمكن استنطاقه هناك، فاستكملت (الفئران) الصورة النفسية المُغيّبة لمنفيي الداخل، و(المرآة) استحضرت الصورة النفسية لمنفيي الخارج، فكانتا جهداً لراصد ينتمي الى المدرسة النفسية في الروي، وكأن العذابات لم تكن لتنتهي بانتهاء زمنها المعاش، ولا في لحظة الانتقام الضمني لانهيار النظام القامع او مسببات الالم الدفين. وفي ملحوظة سياقية عن (الفئران)، يمكن الاشارة ان العقابي استثمر لعبة جورج اورويل في (حديقة الحيوان) و(1984)، عبر موجهات الكتابة العراقية عن التجربة.
آخر الاعمال الروائية التي انتجها حميد، كانت (القلادة/ دار الجمل 2016) – لا يعرف على وجه التحديد زمن الكتابة – لكنها لم تكن رواية كتبت على زمن واحد، انما هي مشغل زمني مفتوح، تجلت فيها القدرة على تطويع التاريخ للمخيال الروائي الذي يبرع فيه، فالرواية استحضرت شخوصاً مقدسين في زمن غير مقدس، واستحضرت معهم سلوكياتهم غير المقدسة في زمن التقديس المبالغ فيه، كانت لعبة حرجة في استنطاق "المقدسين" بلسان "المدنسين"، وهو هنا يعود الى ذات لعبته في رسالته العجائبية (الجلق والجلّاقة)، على نحو ليس بالعجائبي، انما بمزج غرائبية الحدث مع واقعية الزمن، فكانت (القلادة) شغلاً احترافياً لمتن التاريخ.
(3)
يظل المتن الشعري لحميد العقابي، مغموراً اذا ما قورن بأعماله الروائية ذات الانتشار، فتلك التجربة الشعرية المنتمية الى ما يُصنفها حميد نفسه لمنتصف السبيعينات، بالتأكيد هي بالغة الاهمية، لجهة ان حميد خرج من معطف "تفجير اللغة" الذي كانت موجة ايديولوجية ركبتها ماكنة "النظام" على سكة الكتابة، لتكون ضداً نوعياً للتجربة الشعرية اليسارية، كما انها – أي تجربة حميد الشعرية – تمثل الحالة الطبيعية المفقودة التي فقدت روح الشعر ومتلازمة التكوين الفطري، فتلك المرحلة انتجت "جماعاتها" و"افرادها" الذين كانوا بحكم ضرورة ضباب المرحلة، ينحازون الى المنطق الايديولوجي في الكتابة، الا اسماء قليلة خرجت من المرجل اما سالمة القوى شعرياً او مشوهة نتيجة الاشتباك مع الرقيب او المقاربات الساذجة للتاريخ على حساب الوعي الثقافي المنزوع سياسياً. وتجربة حميد الشعرية خرجت معافاة، وظلت تنتمي الى اللغة الطبيعية الرائقة.
لذا فأن تجربة حميد الشعرية، يجب ان تدرس بحرص نقدي واعي لزمن الكتابة، ووعي المرحلة والتحولات النفسية المجاورة، لان تلك التجربة المغتربة والمنفية لما قبل مرحلة الرواية، انما هي التي اسست الرصانة الروائية للعقابي. يقول حميد في حوار معه (اواخر تموز 2013): "ذكرتُ في حوارات وشهادات سابقة بأني شاعرٌ، وبصراحة أنا إنسان بدائي يثيره الإيقاع قبل الفكرة. أما عن شعرية نصوصي النثرية فهي عفوية وليست عفوية في الوقت نفسه. عفوية، لأني أكتب نفسي ولا أتصنع الحالة أو أستعير أسلوباً من الآخرين. أما عدم عفويتي فيكمن في أن لي رأياً مسبقاً في الكتابة السردية (الرواية بشكل خاص)، إذ أني أرى أن أغلب السرد الروائي مملٌ وسطحي ورخو، لذلك أحاول أن أستخدم كل ما أتقنه لاجتراح أساليب جديدة لتوسيع دائرة التأويل في السرد الروائي بما هو متاح من وسائل، والشعرية إحدى هذه الوسائل".
(4)
مات حميد...
"حينما سوف أرحل أترك في شقتي: الستائر مُسدلة، أصص الزهر عطش، وأهدي لجاري المقعدة، سريري، ومقلاة بيض، ومنضدتي". هكذا يختتم حميد روايته (اصغي الى رمادي)، يختتمها وكأنه كان يعي تماماً، ان الرحلة المقبلة التي يدلف بها الى العالم المجاور، ستكون رحلة اكتشاف، يأخذ معه البساطة ذاتها، ويلف ذاكرته بالحرير الدمشقي...